كورونا غيّرت حياتي
قصة قصيرة

ساره عدنان العبدالله
طالبة في قسم علوم الحاسبات
جامعة جيهان-أربيل

كان يوما صاخبا مملا للحد الذي يجعلني افكر برمي قامتي وانا اقف على عتبة الرصيف امام موقف الباصات ، الى الشارع فيُسحق جسدي تحت أحدى دواليب السيارات السخينة من شدة السرعة ، فبعد نهار شاق من العمل بمركز كوافير نسائي عُدت الى المنزل ورأسي يكاد ينفجر من طلبات الزبونات المملات فبنهاية الأمر انا مُجبرة على أرضاهن وتصفيف شعرهن بالشكل المطلوب ومجاملتهن طوال الوقت ، كُنت أنتظر أنتهاء يومي بفارغ الصبر لأخذ قسطا من الراحة ، ولكن حالما أصل الى عتبة باب المنزل أنسى تعبي واشعر ببؤس شديد يجعلني أتمنى لو أنني قضيت ليلتلي بمركز الكوافير ، فمنظر طفلتي المُقعدة يجعلني بحالة يأس أبدية ، أما والدها الذي بُت أكرهه كرهاً لا حدود له كونه المسؤول الأولى عن وضع أبنتي الصحي وعن الوضع الذي انا عليه من جُهدٌ وتعب ، جلست أندب حظي على عتبة باب المنزل اترقب ضوضاء العالم وحركتهم غير المبررة ! على ماذا يتراكضون هكذا ويبذلون جهودا واعمالا طويلة فقط لأرضاء مِعداتهم ! حيث أنني بكل مرة أقتني راتبي الشهري من مديرة عملي مع زميلاتي أرى بهجتهن بتلك النقود و طموحاتهن بشراء الكثير الكثير من المواد حتى أن بعضهن يذهبن فورا للمتجر المقابل للمركز الذي نعمل به ولا يخرجن من المتجر الا وأصابعهن تشتكي من حمل الاكياس المثقلة بمشتريات عدة، وهذا حال الجميع على ما اعتقد ، فالكُل هنا يجهد نفسه ليرضي نفسه ! اي حياة هذه !

حملت نفسي وتوجهت نحو الباب لاضع المفتاح بقفله واديره بهدوء ، عليّ اتمكن من الدخول دون أن ألفت أنتباه زوجي ، فبهذه الأيام تحديدا باتت رؤية وجهه تستفزني لدرجة غريبة ، تسللت الى غرفتي المنفردة عنه ووضعت رأسي فوق وسادتي وبدأت دموعي تنهمر بغزارة ، وانا استمع لصوت طفلتي وهي ترحب بي عن بعد من سريرها الصغير ، وتبع صوتها صوت والدها وهو يسألني ما ان تناولت شيئا من الطعام ام لا ، اذ كان يحظر لنفسه ولابنته الطعام ككل يوم ، وهو على يقين تام بأنني أكرهه كونه المسؤول الوحيد عن وضع ابنتنا، فحين لم يستطع ان يدبر لها مبلغ العملية منذ سنتين ، بقيت أبنتي عاجزة عن السير حتى بعد ان اتمت الرابعة من عمرها ، مضيت بنوم عميق حتى استيقظت صباح اليوم الثاني بتعب شديد لم أعهده من قبل ! فلطالما اعتدت على أرهاق العمل ولكن ليس لهذه الدرجة ! نهضت عن فراشي بصعوبة وتوجهت لاحتساء كوب من القهوة كعادتي كل صباح ، ورغم الألم الذي انا عليه جاهدت نفسي على الخروج فبقائي بالبيت ورؤية وجه زوجي قد يزيد عليّ الأمر سوءا ، ولكن قبل أن أتحرك نحو الغرفة لتغيير ملابسي رن هاتفي النقال ، ترقبت شاشته واذا بمديرة العمل تتصل ! ورغم أستغرابي من مهاتفتها لي على غير عادتها الا انني اجبت على مكالمتها لتخبرني بأن وزارة الصحة أمرتها بأغلاق المركز الى أشعار آخر كما حدث مع المراكز التجميلية الأخرى والاماكن العامة تفاديا لانتشار وباء كورونا نتيجة الآختلاط العام !

هو مرضٌ تنفسي إنتاني حيواني المنشأ، وهو قريبٌ جدًا من فيروس سارس. اكتُشف الفيروس المستجد لأول مرة في مدينة ووهان الصينية عام 2019، وانتشر حول العالم منذ ذلك الوقت مسببًا جائحة فيروس كورونا 2019-2020 العالمية ، لم يكُن الآمر يُعنيني كثيرا رغم البلبلة التي احدثها هذا الفيروس بين الناس وبث الرعب بقلوبهم وافكارهم ،حيث انشغلت القنوات الأخبارية بالتحذير الشديد من الاختلاط بأماكن عامة وتنبه على ضرورة استخدام القفازات الطبية والكمامات وتجنب التواصل الجسدي وأن غسل اليدين من أهم الأشياء للوقاية من فيروس كورونا، فمن الضرورى غسل الأظافر والجلد بين أصابعك فهي أماكن لاختباء جميع أنواع البكتيريا كما يمكن أن تدخل الفيروسات جسمك من خلال عينيك وأنفك وفمك وفتحات أخرى، لذلك حذرت ايضا من لمس الوجه !

بدأ الضجر يسيطر علي تماما خصوصا بعد ان استيقظ زوجي وابنتي ! أهذا منظر يستحق أن أعيش معه طوال حياتي ! هربت الى غرفتي فورا واوصدت الباب بقوة ، بعد نصف ساعة تقريبا كان زوجي يطرق الباب بشدة ويطلب مني ان اخرج لتناول الفطور معا ! فتحت الباب بغضب صارخة بوجهه أن يتركني وشأني ، فأنا لا أريد منه شيئا ! لأنه فاشل بالفعل

بدأ يهدأني ويقول أن العالم الخارجي بمأساة كبيرة ، وحالنا أفضل مما هم عليه بالخارج ! الحياة مهددة بالأنقراض الوباء ينتشر بسرعة رهيبة واعداد المصابين يتزايد كل دقيقة ! ولكنه تفاجأ بردي حين قلت له ليت ذلك الوباء يصيبني لاتخلص من رؤيتك ورؤية هذا العالم البشع ! وهنا بدأت اشعر بالدوار الشديد وفقدت السيطرة حتى انني كُدت ان اسقط ارضا الأ ان زوجي سارع بأسنادي ، وبعد ان اسندني على كتفه استغرب من حرارتي ! اذ كانت مرتفعة لدرجة غير معقولة ! أرتاع من الوضع الذي انا عليه وبدأ يتراكض بأتجاهات مختلفة لا يعرف كيف يتصرف ! نقلني بعدها فورا الى المستشفى ليقرروا هناك بأنني مصابة بفيروس كورونا ويجب عزلي فورا ومعالجتي على انفراد ! بعد ان سمع زوجي بهذا نظر الي نظرة جعلت قلبي يقفز من مكانه ، حيث كانت نظراته ناطقة وكأنها تقول بأن نهايتي محسومة !

فصلوني عنه فورا وبدأت ابتعد وانا اراقبه بنظراتي دون ان انطق بشيء ، غير أنني لم ارى منه سوى دموعه !

لا أدري ما الذي حدث فجأة ! لقد تلاشت قدرة ادراكي وبت أشعر أنني بحُلم ! لا بل أنني حقا بكابوس ! لوهلة بدأ الجميع ينفر مني و يخشى الاقتراب وكأنني شيء مُنكر مقزز ! كان منظر الاطباء مخيفا للغاية فلا يشيء يظهر منهم سوى ردائهم الابيض العازل للفايروس ، كانو يوجهوني للذهاب الى غرفة العزل وتلقي العلاج ، بعد ان استدعوا زوجي وطفلتي للخضوع للفحص وعزلة مدتها سبعة ايام حتى يتم التأكد من سلامتهم .

مكثت 15 يوما في المستشفى ولم أشعر بأية أعراض تذكر كتلك التي نسمع عنها، أحسست فقط بارتفاع طفيف في درجة حرارتي وكان الأطباء كل مرة يعالجونها بالأدوية المعدة للغرض إلى أن اختفت تماما،

طوال فترة العزل كُنت انتظر مكالمة هاتفية من زميلاتي بالعمل او امي وشقيقاتي الثلاث اللاتي لطالما كُنت افضلهن على بيتي وعائلتي ولكن ما حدث أنه لم يتصل بي احد سوى زوجي ! كنا على تواصل دائما عبر الهاتف نتحدث لساعات طويلة حتى بُت اشعر أنني تعرفت على شخص جديد وليس من كان يمكث معي بنفس المنزل ! بدأت اشعر بالأسف الاشديد على مابدر مني مسبقا تجاهه ، فرغم أنه فعل مابوسعه لتشافي ابنتي الا انني لم أكن اقدر جهوده تلك ابدا واشعرته دوما بالفشل ، حتى أنني كُنت الا أنظر إليه الا بأشمئزاز ، تبدلت مشاعري نحوه تماما وبت أشعر نحوه بالحب كما كُنت اول مرة قبل ان يصبح زوجي ! حتى أن صحتي بدأت تتحسن الأمر الذي جعل الاطباء يعيدون تحليل دمي للتأكد من شفائي التام من الفيروس، والحمد لله كانت النتيجة سلبية هذه المرة وسمحوا لي بمغادرة المشفى نهائيا وممارسة حياتي الطبيعية. لا يمكن أن أقلل من خطورة الفيروس فالكل معرض للعدوى والمرض ما لم يلتزم بتعليمات الوقاية المعروفة وخاصة الابتعاد عن الناس والالتزام بالحجر الصحي الذاتي للحد من انتشار هذه الآفة ، بعد ان عبرت باب المستشفى كان زوجي ينتظرني هناك برفقة ابنتا ، نظرت الى هدوء العالم وخلو الشوارع من الناس ، تذكرت كم مرة كُنت أندب بها تحشدهم و هوسهم بالعيش ! فبعد أن تخلل الاوكسجين رئتي من جديد أدركت قيمة النعم التي كان يتفضل الله بها علينا ، ولكننا لم نكن نشعر بها ابدا بل نعدها عداد اي شيء روتيني ممل ، عُدت الى المنزل بشغف كُنت أغتنم كُل فرصة لآرى وجه ابنتي وزوجي ، مارست كُل ملذات الحياة معهم ، كما بدأت استرجع هوسي المسبق بالرسم ورسم لوحتي التي لطالما كُنت احلم بها ونجحت بها بالفعل فقد قام زوجي بأرسال نسخة منها الى فنان فرنسي معروف عبر الانترنت وقد اشاد بها كثيرا ونالت استحسانه ، وكُنت اكتشف كُل يوم سببا يجعلني اتمسك بخيوط الأمل ، حتى أنني خصصت ساعات اقوم بها بممارسة رياضة المشي مع ابنتي ورغم ادراكي بعجزها الا أنها تحتاج لذلك بمساعدتي انا ووالدها لاجل الايحدث ضمور بعضلات جسدها الصغير ، ولكن اي معجزة تلك !! فقبل ان ننهي معها شهرا بدأت تقف على ساقيها ! اتصلنا فورا بطبيبها الخاص وشجعنا على الاستمرار بمشيها حتى بدأت تسير بالفعل وكانها لم تكن يوما مقعدة !

ألم يكن لذلك الفيروس سببا بأن نعيش نحن كثلاثة افراد ببيت صغير ! لقد كان رحمة من رحمات ربي واستراحة من العالم لنكتشف انفسنا وقدراتنا ، كُلنا نستطيع لو جربنا الانفراد بذاتنا بقوة وعقل ، لم يكن حجر صحي ولم تكن نهاية الارض ! كان بداية بشكل آخر ، اغتنموا فرصكم بهذا الاستراحة القصيرة وسارعوا بأنجازاتكم فغدا تشرق الشمس من جديد ونخرج تحت السماء فخورين بأنجازاتنا .... لم تكن النهاية ابدا ! انها البداية

كورونا جعلتني أعيش ...